ا[الجزء الرابع]ا - الحلقة التاسعة عشر والأخيرة

فكرت سارة:
آه يا خالتى أم عمر، عايزة تحدفي كرسي في الكلوب؟ ماشى .. وانت يا عمورتي حبيب ماما عمرك ما حاتتكلم طبعا .. ولو اتكلمت حاتدافع عن منطق مامتك .. الحمد لله انى علمت حسابى على اللحظه دي ..
واخذت سارة نفسا عميقا ثم قالت بهدوء: لا يا طنط، ما عاش ولا كان اللي يقول على حضرتك شغالة .. ده حضرتك تقعدي واحنا كلنا خدامينك .. انا اصلا من الحاجات اللي خلتني افرح اكتر بالمدرسه دي ان فيها "داي كير" لابناء المدرسات، و اللي عندها طفل لسه تحت التلات سنوات ممكن تسيبه فيها مجانا .. عشان كده عملت حسابي قلت لو حضرتك مضايقه من مريم اخدها معايا الصبح وانا نازله .. وبين الحصص ممكن اروح اشوفها .. وتكون برضه تحت عيني.
احس عمر ان سارة انتشلته من بئر بلا قرار و قال بمرح: طيب الحمد لله يا ماما اهوه، وحضرتك تقضي وقتك في قراءة القرأن او تعملي اللي بتحبيه .. بس عشان خاطري ما تسافريش وتسيبيني، و الله ده سارة بتحبك زي مادينا وداليا بيحبوكي واكتر .. غير ان بيوت اخواتي مهما كانت بيوت رجاله أغراب، لكن ده بيتك ومكانك ..

و كأن سارة قد اطفات النار قبل اندلاعها .. صمتت والدة عمر و لم تعقب بكلمه واحدة ..

و في الايام التالية قررت سارة ان تدرب نفسها على عمل اطعمة اليوم التالي ووضعها في الفريزر، وعلى الاستيقاظ مبكرا وتنظيف المنزل والاطفال نيام قبل ميعاد المدرسه .. وكلما امعنت في الاهتمام بالمنزل و الطعام، تجد حماتها اصابتها الغيره وحاولت مساعدتها، ومد يد العون لها، بالرغم من عدم طلب سارة لاي مساعده و لو صغيره منها
و كانت قد بدات التدريب في المدرسه بالفعل، حيث وفرت تلك المدرسة دورة تدريبية للمدرسات الجدد، قبل بداية العام الدراسي، واحست سارة انها اختصرت خطوات كثيره، وتعلمت اشياء لم تكن تحلم بها خلال تلك الدورة

ثم فوجئت سارة بمعاملة حماتها تلين معها و تتحسن تحسنا كبيرا، اذ بعد ان انتفت عن سارة شبهة استغلال حماتها اصبحت ام عمر تسعى بنفسها لمساعده سارة والاخذ بيدها .. وقالت لها بعد ان لمست تعبها البالغ كل يوم في العمل واخذها الطفلين معها الى الـ"داي كير" لان الدراسه الفعليه كانت لم تبدأ بعد: بصي يا سارة با بنتي، انت بتتعبى اوي كل يوم فى المدرسه وانا رأييي تبقى تسيبي مريم معايا .. اهي تسليني .. ده انا مش بلاقى حاجه اعملها الصبح، و بتوحشني اوي .. كمان الطبيخ مش لازم تشيلي همه كله لوحدك، انا طول عمرى احب المطبخ ومش باتعب من عمايل الاكل ابدا .. يعنى مثلا سيبيلي المحشي انا الفه وانا قاعده قدام التلفزيون .. اقطع الخضار .. كده يعني الحاجات دي.
قامت سارة و احتضنتها بحب قائلة: ربنا يخليى لينا يا ماما، انا و الله حاعمل اللي ربنا يقدرني عليه عشان ما تتعبيش نفسك .. بس تصدقي انا اكتشفت حاجه في الايام اللي فاتت دي، اكتشفت ان النشاط بيجيب نشاط، والكسل بيجيب كسل .. لما كنت قاعده فى البيت ما كنتش متخيله انى هارجع تاني اصحى بدري و اروح شغل .. لكن لما حصل فعلا، لقيت نفسي عادي، مش تعبانه، بالعكس، بحس اني نشيطه .. وسعيده إني اخر اليوم بكون انجزت حاجه، بدل النوم لحد متاخر والكسل اللي مالوش فايده ده.
ام عمر: على ايامنا ما كانش مسموح لنا بالشغل، حتى الست اللي تشتغل دي بتكون عيبه في حق جوزها .. رغم اني معايا ليسانس، لكن ابو عمر الله يرحمه عمره ما سمحلى اشتغل .. بس دينا وداليا بناتي الاتنين بيشتغلوا والله و بيقولوا زيك كده النشاط بيجيب نشاط.

اما عمر فكان يرقبها، سعيدا بكل ما تحققه، سعادته بانجازاته الشخصيه، انه في بعض الاحيان يحس انها طفلته، رغم ان فارق السن ليس كبيرا بينهما، الا انه يشعر ان اجزاء كبيره من شخصية و كيان سارة تكون على يديه .. كما تكونت ايضا اجزاء من كيانه على يديها .. واصبحت الحياه بينهما اكثر استقرارا و نعومه، وهذا لا يحدث الا للقليل من الازواج الذين يسبغ الله عليهم من ضمن نعمه الكثيره .. نعمة التفاهم والتعاون على اسعاد بعضهما البعض .. فكم من بيوت غلفت ابوابها، و ظاهرها السعادة، لكن نقص التفاهم والحب، يجعلان من المال والبنين و كل مظاهر الحياه السعيدة مجرد مظاهر جوفاء، لا تحوى داخلها سكناً ولا مودة ولا رحمه، بالرغم من كونها الهدف الاساسى من الزواج.

و قبل بدء الدراسه بايام دخل عمر المنزل عصراً، ليجد مريم تجرى عليه بالمشايه، وواضح على شعرها المبتل انها خرجت لتوها من الحمام .. ويحيى لا زال يرتدي ملابسه بعد ان انتهى من حمامه، ثم خرجت سارة لاستقباله قائله: ازيك يا حبيبي؟ احضر الغدا؟
عمر: اغير هدومي و اصلي، لحد ما تحضريه براحتك ..

ثم دخل غرفته ليغير ملابسه .. و بعد فروغه من صلاته، فوجىء بيحيى يقف و يطرق بابا غرفته ..
يحيى: ممكن ادخل يا بابا؟
عمر: اتفضل يا حبيبي .. ما دخلتش ليه من بدري؟
يحيى: ماما قالت لازم أخبط اول بعدين ادخل الاوضه.
عمر: ماما دي جميلة ..
يحيى: اه ماما جميلة .. انا باحبها اوي. عارف يا بابا، ماما قالت خلاص حاروح المدرسه الحقيقيه يوم الاحد الجاي.
عمر: ان شاء الله ..
يحيى باصرار طفولي: لا والله حاروح ماما قالت ..
عمر: بس لازم برضه نقول ان شاء الله، عشان ربنا لو مش عايزك تروح ممكن اى حاجه تحصل و ما تروحش .. حاجه بسيطه اوي، مثلا المنبه ما يضربش، الباص ما يجيش، كلمة ان شاء الله وباذن الله دي لازم تقولها يا يحيى عشان ربنا يحبك ويعرف انك مستني اذنه .. مش انت استاذنت وانت على الباب، مع انك عارف انى حادخلك؟؟
رد يحيى وقد بدا انه فهم: خلاص يا بابا ان شاء الله اروح المدرسة يوم الاحد، صح كده؟
قبله عمر و هو يدعو له ان يكون من الهادين المهتدين بامر الله ..

و جاءت مريم و دخلت مثل الطلقة على مشايتها و هى تبتسم ابتسامه عذبه، و تمد ذراعيها الصغيرين لاباها كي يحملها، مما جعل قلب عمر يذوب حنانا ليحملها عاليا و يقبلها ..
يحيى: بابا، مريم مش استاذنت ولا خبطت ..
عمر: هى لسه صغيره يا حبيبي .. لما تكبر زيك تتعلم منك عشان انت شاطر .. يعنى انا مش حاقول كل الكلام ده تاني، هي حاتشوف يحيى جميل وبيعمل حاجات جميلة تروح عامله زيه على طول ..

الى هنا و نادت سارة على يحيى ليبلغ اباه ان الغداء جاهز ..
جاء يحيى مره اخرى و قال: بابا، ان شاء الله الغدا جاهز ع السفره ..
ضحك عمر من قلبه و هو يجد يحيى يطبق تعليماته بحذافيرها ..
كما انه انتشى بتحسن العلاقه بين امه و بين سارة بعد ان كانت تنذر بهبوب عواصف، وحمد الله كثيرا على هذه الزوجة الصالحة ..
انه منذ بدأت العمل لم يلمح تقصيراً لا في المنزل ولا في الاولاد .. بل بالعكس اصبح للاولاد مواعيد ثابته للنوم والاستيقاظ بعد ان كانوا يسهرون للفجر وينامون للضحى .. حتى ميعاد حمامهم اليومى اصبح منضبطاً كالساعة ..

و جاء اليوم المرتقب، و كان عمر قد استعد لذلك اليوم باحضار كاميرا فيديو من احد اصدقائه، ليسجل لحظات دخول يحيى المدرسه للمره الاولى .. لم يكن يحيى هائبا للموقف لكونه جرب الذهاب مع امه للـ"داي كير" الخاص بالمدرسه قبل ذلك .. لكنه كان لاول مره يرتدي الـ"يونيفورم"، ويحمل الحقيبه التي امتلات بادوات سبايدر مان .. مقلمه و استيكه و برايه .. كانت عينا عمر نفسه تلمع بفرحه طفوليه كلما رأى سعادة ابنه بهذه الاشياء .. و يعود و يتذكر ايام كان طفلا، وكانت هذه الاشياء الصغيره تتسبب في سعادته القصوى، و تامل في حال الدنيا، و كيف انه كلما كبر الانسان، ذابت المتع الصغيرة، وراحت الدهشة و البراءة الجميلة .. حتى الاشياء الكبيرة لا تسعده نفس تلك السعادة الصافية التي نعم بها ايام كان طفلاً غريراً مطمئناً للدنيا في كنف ابويه ..
فى اول يوم ليحيى فى المدرسه احس عمر ان فصلا جديدا من حياته الزوجيه على وشك ان يبدأ، لذلك اصر على تصوير بداية هذا الفصل، لتبقى ليحيى دليلا على جمال الذكريات و براءتها .. و اصرت ام عمر في ذلك اليوم على الا تذهب مريم مع والدتها .. كى يتفرغ كل من عمر و سارة ليحيى و للاهتمام به ..
و فى المدرسه، كان المنظر يستحق التصوير .. عشرات الاطفال فى سن يحيى يخطون اولى خطواتهم في الحياة العريضة، وحدهم، و لاول مرة، دون الاعتماد على اهلهم .. كان عمر ينظر بعينيه لكن يرى بقلبه، يرى هؤلاء الاطفال، وقد اصبحوا شابات و شبان كبار .. يبدأون وضع لبنه جديده في مجمتع واعد، دعا الله ان تكون ايامهم خيراً من ايام اباءهم و اسعد ..
وانطلقت المدرسات في همة، تنظمن الصفوف وترشدن كل وليّ امر الى مكان طابور ابنه، ومكان فصله ايضا .. فقد كان مسموحاً في اليوم الاول لاولياء الامور بالتواجد مع اطفالهم حتى يألفوا المكان ..
و انطلق بعض التلاميذ يضحك ويمرح، واصاب بعضهم الاخر الذهول، وقليل منهم انخرط فى البكاء متشبثاً بوالديه ..
و عندما تجول عمر في المدرسه، احس ان تعبه وتعب سارة لن يضيع هباءاً باذن الله .. ليس فقط من جمال الافنيه ونظافة الفصول، بل من الاهتمام المرتسم على وجه كل مدرّسة، و هي تحس ان مهمتها في "كي جي وان"، لا تقل، بل من الممكن ان تزيد اهميه عن مهمة دكتور الجامعه .. و هى بالفعل لا تقل .. بل تزيد.!
لان كيان الطفل و مستقبله، يتم تشكيله في سنى عمره الاولى، التي يكون فيها عقله مثل فيلم الكاميرا، قابلا للالتقاط والتخزين باقصى سرعه ممكنه ..
اللهم اهد ابناءنا و انشئهم على الايمان ..
و ابتسمت سارة و هى تراقب فرحة عمر بيحيى .. وهي ترى ثمرة قلبها يقف فى الصف .. و يحيي العلم .. ويردد: تحيا جمهورية مصر العربية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Facebook Twitter Favorites More